الجمعة، 9 أغسطس 2019

(من أحاديث الثبات -٣- ) : دروس من الحج في زمن التبديل.

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
حين يسطعُ غبار التبديل ابتغاء الفتنة عن الحق وابتغاء تأويله؛ فإن الملجأ والرِّي والرَّواء في حمى النص.
وما أعظم حاجتنا إلى أن نأوي إلى جبل يعصمنا من الفتنة، نلوذ بالنصوص من جفاف الرأي وصحرائه.
نقل ابن وضَّاح -رحمه الله-: "يأتي على الناس زمان يسمّن الرجل راحلته حتى تعقد شحماً، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقصاً، يلتمس من يفتيه بسنَّةٍ قد عُمل بها فلا يجد من يُفتيه إلاّ بالظن".
وقال: "سمعت سحنوناً يقول منذ خمسين سنة:" إني أظن أنّا في ذلك الزمان، فطلبت أهل السُّنة في ذلك فكانوا كالكواكب المضيء في ليلة مظلمة "[1].
ويعلق ابن عبد البر في التمهيد على حديث: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول :يا ليتني مكانه"، فيقول:
"وذلك لمَا يحدث فيه من المحن والبلاء والفتن، وقد أدركنا ذلك الزمان ! كما شاء الواحد المنان لا شريك له، عصمنا الله ووفقنا وغفر لنا، آمين" [2].

   • وهنا وقفات مع بعض نصوص المناسك، استنطقت حروفها تلك المواسمُ المباركة، ونادتها المشاعرُ من المشاعر، ومهَّد لقطب رحاها هذه الأحداث الكبرى التي تخفق راياتها في هذه الأيام في بلاد المسلمين.
ولقد اعتاد أهل العلم في هذه المواسم المباركة عقد حِلَق الفقه والعلم؛ لتدارس مسائل الحج ومناسكه وأحكامه.
ونِعمَ رديف ذلك أن نتدارس دروس المناسك في الدعوة والمنهج، وأن يُرسل القلم بواعث الشجن، شجن النصر والفتح، وذكريات الصراع والمواجهة، الصراع بين الحق والباطل، والمواجهة بين الإيمان والكفر، مما يوقظه الحج -بمناسكه ومواطنه ونصوصه- في النفوس، ويوقد ناره للسائرين على الطريق، وهل ينتجع الغيث في أقطاره من سقاه الوبل في دياره ؟!.
    ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم رسول الله  ﷺ وأصحابه مكة وقد وهنتم حُمَّى يثرب، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قومٌ قد وهنتهم الحُمَّى ولقوا منها شدة! فجلسوا مما يلي الحجر،
وأمرهم النبي ﷺ أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدهم!
فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحُمّى وهنتهم؟
هؤلاء أجلد من كذا وكذا"! [3].
أرأيت العناية النبوية بمراغمة الكفر والكافرين؟
أرأيت سنة الرمَل التي أجمع على إحكامها فقهاء الأمصار، كيف تُذَكّر المسلم عبادة غيظ الكافرين؟ مع أنه قد زال سببها ومع هذا رمَل النبي ﷺ بعد ذلك في حجة الوداع ورمَل صحابته بعده.[4]
وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين:
(لا شيء أحبّ إلى الله من مراغمة وليّه لعدوه وإغاظته له،
وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه).
بل جعلها -رحمه الله- ذريعةً يدخل بها المؤمن بحبوحة الصدِّيقية فقال: (فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصدِّيقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ) [4].
ويقول رحمه الله: "وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس! ومن ذاق طعمه ولذّته بكى على أيامه الأُوّل" [5].
   ولقد كان الحج فرصة نبوية لتأكيد معاني الاستعلاء على الكفر والكافرين، والترفع على الجاهلية وأنظمتها واقتصادها وقوانينها: ففي صحيح مسلم خطَب النبي  ﷺ في حجة الوداع فقال: "ﺃﻻ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻣﻦ ﺃﻣﺮ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻲ ﻣﻮﺿﻮﻉ! ﻭﺩﻣﺎء اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﺔ، ﻭﺭﺑﺎ اﻟﺠﺎهلية ﻣﻮﺿﻮﻉ" [6].
والحج كلّه تأكيد لهذا الأمر، تأكيد لمعناه في القلوب، وتربية للنفوس عليه، ولذا حرص النبي ﷺ على مخالفة المشركين في نسكهم في مواضع عديدة، كما ثبت في البخاري من حديث عمرو بن ميمون قال: "شهدت عمر رضي الله عنه صَلَّى بجُمْع ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس.ويقولون: أشرقْ ثبير، وأن النبي ﷺ خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس " [7].

    وأبلغ من ذلك ما ثبت عند الترمذي وصححه والنسائي عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ دخل مكة في عمرة القضاء و عبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله
            اليوم نضربكم على تنزيله 

ضرباً يُزيل الهام عن مقيله
               ويُذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر : يا ابن رواحة!، بين يدي رسول الله ﷺ وفي حرم الله تقول الشعر!، فقال له النبي ﷺ: "خلِّ عنه يا عمر !
فلهي أسرع فيهم من نضح النبل"(8).
وهذه أبلغ في المراغمة، فإنها إشهار لذلك (بإعلام العرب المسموع -الشعر-)، وهو دال على مشروعية مراغمة الكافر، حتى في زمن العهد فضلاً عن حال القتال والحرب.
    ثم تأمل الرسالة التي أراد النبي ﷺ أن يرسلها للمشركين في عام الحديبية، حين أهدى ونحر في نسكه جملاً لأبي جهل في رأسه بُرة فضة -مما غنمه المسلمون منه- قال ابن عباس: "يغيظ بذلك المشركين". [9].
لقد نَحَر جملَ سيدهم، سيدهم الذي قتله المسلمون في بدر، في أول لقاء بين الإيمان والكفر.
    ومما يتصل بهذا ما ذكره بعض العلماء في سبب تسمية عمرة القضيّة بهذا الاسم؛ حيث اختلف الفقهاء في ذلك، هل هو مأخوذٌ من القضاء للعبادة (العمرة الأولى) ؟
أم من مقاضاة للكافر؟
على قولين اختار ابن القيم الثاني [10].
فتأمل هذا المعنى الشريف، وانظر كيف ارتبط اسم تلك العمرة بهذا المعنى من معاني الصراع مع الكفار.
    ومما يحسن ذكره هُنا أن النبي ﷺ قال يوم النحر وهو بمنى: "نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر، وذلك أن قريشاً و كنانة تحالفت على بني هاشم و بني عبد المطلب ألا يُناكحوهم ولا يُبايعوهم حتى يُسلِموا إليهم النبي  ﷺ" (11).
فأراد النبي ﷺ أن ينزل في موضع قد نزله الكفار يوماً ومكروا فيه بالمسلمين، وأرادوا أن يصيبوا منهم، فنزل ﷺ في ذلك الموضع إظهاراً للحق في المكان الذي جعل منه المشركون مؤتمراً لحرب محمد ﷺ وأهله.
ولذا استحب العلماء ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر الله وإظهار شعار المسلمين [12].
ومن لطيف ما يظهر للناظر في دروس الحج ما يؤخذ من حديث جابر رضي الله عنه :" أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص :"قل يا أيها الكافرون" و"قل هو أحد".[13].
فهذه سورة البراءة من الكفار كما سماها النبي ﷺ من حديث فروة بن نوفل.[14]

    ولقد احتضنت رباع مكة ذكريات من ذكريات الألم والحزن والقهر والابتلاء، وأتى النبي ﷺ في حجة الوداع فأشرف على الكعبة لما رقي على الصفا واستقبل القبلة ووحّد الله وكبّره وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده "[15].
هناك حول الكعبة كان المشركون يستهزؤون بالنبي ﷺ ويؤذونه!
قبل سنيات قليلة انطلق أشقاهم فجاء بسلا جزور بعض المشركين فوضعه على ظهر النبي ﷺ!
واليوم يشرف ﷺ على الكعبة، ويردد كلما صعد الصفا والمروة: "لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده"!.
فالحمد لله، والله أكبر!.
وللحديث بقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (1) البدع والنهي عنها (164) .

(2) التمهيد -المرتب- (6 / 398) .

(3) أخرجه البخاري (1602)، و مسلم (1266) .

(4) مسلم (1218).

(5) المدارج (414 / 1 415) دار طيبة .

(6) المدارج (415 / 1) .

(7) مسلم ( 1218) وانظر : اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 342) .

(8) أخرجه البخاري (1684) .

(9) الترمذي (2847)، والنسائي (2873) وصححه الضياء و ابن حجر .

(10) أبو داود (1749) .

(11) انظر : (زاد المعاد : 273 / 3)، فتح الباري : شرح حديث (4252) .

(12) البخاري (1589)، ومسلم (1314) عن أبي هريرة .

(13) انظر : فتح الباري : شرح حديث 3065، وشرح النووي : حديث 2875 .

(14) مسلم (1218) ولكن فيه قال جعفر بن محمد عن أبيه: "أظنه رفعه للنبي ﷺ، والترمذي (869)، النسائي (2963) .

(15) رواه الترمذي (3403)

(16) مسلم (1218) عن جابر .


هناك تعليقان (2):