الأحد، 29 أكتوبر 2017

الخلاف الفقهي: الدرس والحجية.


      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن تنغيص طعمة العلم على صاحبه ولطخ حلاوته على حامله؛ أن يكون مخاصما في عماية، لا يزن خصومته بعدل، ولا يجلل كلامه بنصفة.
وقد رأيت مقطعا في تويتر من مقابلة لداعية في قناة فضائية، رأيته أنغض فيه برأسه على مخالفيه، ولم يغشِّ حديثه بحلل من رعي الخلاف!!
رأيته ينعى على مخالفيه خلو ساحة العلم والدعوة من رعي خلاف المخالفين! وعوزها لبسط الإعذار وجدبها من توسعة النظر الخلافي الفقهي!
فزعم أن التدريس الشرعي والدعوة والفتيا في بلادنا كانت مقتصرة على مدرسة فقهية واحدة، لا تعطف رأسها على غير أقوال مشيختها، ولا تلين كتفها لغير علمائها، وأن ذلك من أسباب التشدد والعنت!
هكذا زعم وادعى.
ولئن وجدت عذرا لمن لم يدرج على عش العلم ولم يتقفر منازله، فكيف أجد العذر لمن هو منتسب للعلم، راح فيه وغدا، وحفي فيه واحتذى!
وعندي أن ذلك أحد رجلين: إما رجل أراد رمي خصمه بسهام راشها من خياله، فنسج لهم تهما وصنع خطاياها من صناعة عقله، ليسقط خصمه ويذرع لنفسه.
وإما رجل لم يعرف معاهد العلم ولم يأنس بنورها ولم يحكحك قرنه بجذلها!
وإلا فما من أحد تعاهد مجالس العلم في بلادنا واغتذى من لبانها إلا ويعلم عظيم عنايتهم بفقه الخلاف، وواسع إعذارهم للمخالفين بالعلم من أهل التقوى والديانة، دون المتفلتين عن الشرائع، المتخذي خلاف العلماء جُنّة لترك الأدلة.

- وأنا فأحدثك عن نفسي ومثلي في ذلك مثل الآلاف من شداة العلم، الذين أعنقوا للعلم أعناقهم وساروا فيه عنَقَهم، ووقفوا على الطريقة العلمية التي كانت في بلدهم، فأذكر ما كانت عليه طرق التعليم وسبله، من غير تصويب لها بالضرورة أو تخطئة، وإنما شأني أن أحكي حكاية رأيتها وسرت في أهلها، أذكرها عافية من الاستدلال لها، خالية عن تقرير الطريقة الفضلى في الدرس والتعليم.

لقد كان أدنى نظر لدروس العلم وحلقه في بلادنا سيبدي لصاحبه كبير العناية بفقه المدارس الأخرى، ودرس آداب الخلاف، وتعظيم علماء المذاهب، مقرونا برديفه، ونعم الرديف، تعظيم الدليل، والوقوف عند حدود الشريعة، وترتيب اختلاف المختلفين وتنزيلها منازلها.

وذلك أني حين كنت في مبادي سنوات الدراسة المتوسطة كنت أحضر دروسا في الفقه في قريتي بمنطقة الفرعين من ضواحي خميس مشيط، للشيخ: وحيد بن عبد السلام بالي، وكان درسا مأموما، يقصده كثير من طلاب العلم من الخميس وأبها، وكانت تزدحم بهم ممرات القرية، فكان الشيخ يطيل الحديث في الخلاف وتصوير المسائل وسرد الأدلة ونصب الاعتراضات والتعقبات.

ثم مد الله في العمر وواصلت حضور دروس أهل العلم في الخميس وأبها، فكانت الصبغة العامة التي تصطبغ بها دروسهم هو العناية بذكر الخلاف الفقهي في مسائل الفروع، وإقامة المباحثة الفقهية على هذا الشأن، حتى ندر أن تقام دروس الفقه مقتصرة على قول المذهب، غير معتنية بفقه الخلاف وأدلة كل قول والرد عليه.

وكنت أرى ذلك على هذا النحو عند كل من قابلت من طلاب العلم، ولما تحولت للدراسة الجامعية في كلية الشريعة، كان عُظم من درسنا من أساتذتنا معتنيا بذكر الخلاف العالي ثم خلاف المذاهب، وأدلة المذاهب.

ومن شجن ذكرياتي في هذا الباب أن بعض شيوخنا في دروس المساجد كان يعقد حلق المناظرة في مسائل الخلاف.

ومنها ما عقده لنا شيخنا د/ سعيد الحماد، في درس تدريب فقهي على المناظرة، فينتصب كل طالب لقول من الأقوال يجمع أدلته ويناظر عن قولهم، ومن المسائل التي عقد فيها النظر والمباحثة مسألة (كشف الوجه للمرأة) وأوكل لي الشيخ: قول المجوزين، وقال: استقصِ أدلتهم وناظِر عن قولهم.

ولست أنسى لذاذة تلك الليلة الماتعة، وجميل ذكراها، وعائدة معرفة أدلة المخالف، وأن المخالف حين يخالف فربما كان له من الأدلة والحجاج ما هو أولى بالإصابة والحق، كان هذا من نحو ثلاث وعشرين سنة.

ثم مضى الأمر على ذلك، ولما درست عند شيخنا ابن عثيمين رحمه الله رأيته كان لا يتقيد بمذهب، ووجدته يخالف إخوانه من مشايخنا الآخرين، وكان يفتي بما ترجح له من الأقوال بدليلها، وكان يذكر الأقوال ويقرر الاعتراضات في دروسه، ولربما رأيته إذا استفتاه مستفتٍ عابر أجابه بقوله وتفصيل أدلة ما ترجح له.

ومضى الأمر على ذلك ولما درسنا في مرحلة الماجستير كانت الخطة العلمية تلزم بذكر الأقوال في كل مسألة معزوة لكتب أصحابها ومذاهبها وذكر الأدلة والأقوال.
 ولا زال الأمر على ذلك في كل كليات الشريعة والفقه، ولما انتقلت لمرحلة الدكتوراه كان الإلزام بذلك من بدهي الدراسة وكتابة الأبحاث والرسائل، حتى إنها لا تقبل رسالة لم يسلك فيها هذا المسلك.
‏وإذا أردت أن تعلم أن هذه الطريقة نضج مبكر في التعليم، فلتكن قصة الشيخ العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي منك على بال، فإنه رحمه ﷲ لما جاء لبلادنا تعجب من عدم اقتصار الفتوى على قول واحد، وقال : "أتيت من موريتانيا وإنما ندرس ونفتي على مذهب مالك، فلما أتيت هنا وجدت كل المذاهب تدرس ويعتنى بها، فعكفت على دراستهادراستها".
فهذا فيما يتعلق بواقع الدراسة والتعليم.

‏- فإذا كان الأمر هذا في شأن الدراسة والبحث فلماذا لم يسمع بعضهم إلا قولا واحدا في المسائل الخلافية؟
‏ومثل هذه شكاة ظاهر عن أهل العلم عارها!
فإن العلم مبذول لم تغلق حلق المساجد في وجهأ حد، ومن أراد العلم والدرس والتعلم والخلاف والأدلة والنظر والبحث فمن يحجبه عنه؟

- فإن قيل: ولكن لماذا لا تذكر الأقوال كلها في الفتوى والخطبة واللقاء الدعوي والموعظة؟
و‏لماذا لا تنشر الأقوال وتتركون الناس تأخذ ما تشاء؟
فيقال:‏ ومن الذي قال: أن كل خلاف في كل مسألة لابد أن يذكر؟
‏- فأما من جاء يستفتي فقد جاء يسأل من يفتيه ليخبره باجتهاده ورأيه الذي يدين ﷲفيه، ولم يسأله عن جميع ما قيل في المسألة، فإن المستفتي إذا جاء وقد وثق في علم وعدالة من يفتيه فهو طالب لبراءة ذمته أمام ﷲ في المسألة، وهذا بخلاف ما لو جاء طالبا للعلم يسأل عن كل ما قيل في المسألة وأدلتها فهذا سبق الحديث فيه.

- ‏فإن قيل: لكنكم كنتم تنكرون على المخالف لكم في المسائل الخلافية!
‏قيل: ومن الذي قال: إن كل مسألة خلافية فهي بسبيل أن لا تنكر على صاحبها وأن لا يناقش معتنقها؟ فإن مسائل الخلاف فليست على وزان واحد في مآخذها وأدلتها واعتبار خلاف المخالف.
وأنا أضرب لك مثالا من خلاف أهل العلم، لست ترضى أن ينشر أو يؤخذ به أو ينتحل، ‏أرأيت لو جاءنا الآن من يقول: قد اختلف أهل العلم في قتل الداعي إلى الضلالة واستباحة دمه، وأنا أرى ذلك الشيخ ممن يضل الناس وما دام أن المسألة خلافية، فسأستبيح دمه وأقتله ولا يحق لك أن تنكر علي مادام أن في المسألة خلافا!
‏ولاشك أن بعض هؤلاء سيقول: لكن هذا فيه ضرر على الآخرين، فلا اعتبار بالخلاف‏ ولا شك أن جنس المسائل التي يترتب عليها تلف ليست كغيرها، ولكن ليس هذا هو المعيار الوحيد الذي يرجع إليه في اعتبار الخلاف، فكما أن الخلافا لذي يترتب على اعتباره ضرر بمعصوم ليس كغيره، ولذلك لم يكن صحابة النبي ﷺ إذا اختلفوا في مسألة يرجعون للخلاف -لوحده- في ترجيحهم ونظرهم، بل كانوا ينظرون في الأدلة ويجتهدون في تفهم نصوص الوحي، وكان إذا أتاهم سائل يسأل أجابوه بمقتضى الأدلة، ولا يردونه لخلاف فقهاء الصحابة.

ولقد يخرج الحديث إلى عجيبة من العجائب أحدثك بها متفكها بهؤلاء الذين ملؤوا الأرض حديثا عن الخلاف وجعلوا منه جُنّة يستجن به عند ذكر الأدلة والاستدلالات، فإنك تراهم في ذات الحال لا يرفعون رأسرأسا بشأن أهل العلم ولا بفضلهم إلا إذا جاء ذكر الخلاف!
وهنا مسألة لا يحسن أن أختم دون أن آتي على طرف منها، فإن وجود الخلاف شأن ‏يعظم معه الواجب ويغلظ أكثر منه في مسائل الوفاق، فإن المؤمن يظل فيها يطلب ما ينجيه أمام ﷲ ويبذل وسعه ليصل إلى ما يريده الله منه، فإن اجتهد وبذل وتحرى وراعى الله ولم تحذبه جذبات الهوى فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
‏والحمد لله.
كتبه: أبو المثنى محمد آل رميح
الرياض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق