الاثنين، 13 مارس 2017

خاطرة حول: (الفتوى والكهنوت).

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد:
     فقد ‏أنزل الله كتابه وخاطب ﷺ أمته بكافة التكاليف والشرائع، كلهم في أصل ذلك سواء، ومع هذا فقد أخبر الله ﷻ بتفاوت المكلفين واختلافهم في الأخذ بالوحي وفهمه وفقه مراد الله منه فقال: "يرفعِ الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات".

وذلك أن ‏الأدلة والدلالات على رتبتين:
‏- فما كان من أصول التوحيد وقواعد الديانة مما تعظم حاجة الناس له فإنك ستجده متكاثرة أدلته متضحة أحكامه بحسبه.
‏- وما ليس كذلك مما يختص ببعض المكلفين ولا يعم الخطاب به فاتضاح مسائله ودلائله دون ذلك.

‏ثم إن معرفة الحكم الشرعي واقع على منازل:
‏- وجود النص
‏- ثم ثبوت النص
‏- ثم العلم بإحكامه ونسخه
‏- ثم النظر في وجوه معانيه من النصوص الأخرى
‏- ثم الرجوع لمعانيه في لسان العرب
‏-ثم استعمال قواعد الاستدلال وطرق الجمع ووجوه الترجيح.

فإن قيل:
‏أليس في هذه الرتب الاستدلالية التي ذكرتَها آنفا معارضة ليسر الشريعة وتوسعتها وما يدل عليه قول الله: "ولقد يسّرنا القرآن للذكر"
أليست هذه من إغلاق تفهم الوحي عن جميع المكلفين؟
وتعسير طرق الوصول لمراد الله ورسوله؟
أليست دخولا لجحر الضب بتقليد الكهنوت الكتابي ، وضربا على خطاه؟

و‏قبل الجواب عن ذلك أود أن أقول بين يدي هذا الأمر قولا:
لقد رأيت ‏عامة من يستشكل هذا الأمر؛ هو ممن لم يطلب العلم ولم يعان مسائله ولم يطلع على قواعد الاستدلال ومسالك التعليل.
ولقد ‏كنتُ أُورد -على من يناقشني في هذا- بعض الأدلة وأتناقش معه في دلالتها على الأحكام الشرعية، فإذا نبهته إلى مسالك الاستدلال لمعت عينه وعرف خلل الاستدلال بغير أصول وآلة.

وأما ما ذُكر من ‏يسر الشريعة فلابد أن نعلم أن له جانبين؛ عملي وعلمي:
‏فمن اليسر العملي -مثلا- رفع الحرج ودفع المشقة -وصور ذلك في العبادات لا تحصى- ومن أوضح أمثلته الرخص لأهل الأعذار.
‏وأما اليسر العلمي في هذه الشريعة فله وجوه:
‏- فهناك من دلالات الكتاب والسنة ما لا تخفى على من قرأها بمجرد قراءتها، بل إن كل قارئ لها فلابد أن يجد من نورها وهداها وفائدتها بحسبه.

‏- ومن وجوه اليسر العلمي لنصوص الوحي ما ذكره الله في هذه الآية: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر".
‏قال قتادة رحمه الله: "ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﺐ ﺧﻴﺮ ﻳﻌﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ"
‏فقوله ﷻ: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر"، ‏ليس فيه أن يتقحم كل أحد القول في كتاب ﷲ بلا علم، إنما المراد أن من بذل للتذكر وأعطى من عقله وتوجهه وقلبه في تفهم دلالات الشرع أعانه الله وأعطاه وهداه.
بل لو سئل من يستدل بهذه الآية: لماذا جاءت صيغة الجمع في قوله: (يسّرنا) ولم تأت: بصيغة (يسرت)؟
ولو قيل له: ما علاقة (الذكر) هنا بالفهم؟ وما وجوه مجيئ الذكر في القرآن؟
وما معنى (مدكر)، وما الفرق بين معنى (مدّكر) ومذكر؟
لاحتاج أن يرجع لكتب أهل العلم ومدونات المفسرين واللغويين، أو ذهب يتطلب علم ذلك عند أهل الاختصاص.
‏وأنتَ إذا تأملت سائر أنواع العبادات وجدت أن الناس متفاوتون في تحصيل علمها بحسب موقع كل مسألة ودرجتها وحاجة المكلفين لها وعموم البلوى بهابها.
وسأضرب أمثلة في تناويع العبادات تبين شيئا من هذا:

ف‏كل مسلم يعلم فرض الصلاة، ثم إذا سألت آحاد المسلمين عن أحكام سجود السهو وجدت تفاوتا في معرفتها، ثم إذا سألت في أحكام الكسوف زاد التفاوت.
وهلمّ فكل مسلم يعلم فرض الصيام عليه، وإذا سألت عن صحة صيام من أغمي عليه كل يومه وجدت تفاوتا في علم ذلك، ثم إذا سألت عن حكم فطر المرضع فكذلك وهلمّ.

‏وإذا انتقلت لمعرفة أحكام النوازل الحادثة في الصيام -مثلا- مما لم تكن على عهده ﷺ وجدت تفاوت الناس في علمها، وفي حقيقة تصورها، وبأي نظير تلحق، وتحت أي قاعدة تنزل، فكيف يفتي فيها من لم يتخصص؟.

ف‏في الصيام:
ستجد نوازل المفطرات مستجدة مستحدثة تطلب كشفا لحكمها، وبيانا لوجهها (كبخاخ الربو، وأقراص تحت اللسان، ومنظار المعدة، والحقن العلاجية، وإدخال القسطرة، والمنظار المهبلي، وسحب الدم)
ف‏كيف يفتي فيها آحاد الناس، ممن لم يعرف علل المفطرات وجوامع مسائلها ومآخذ أحكامها؟

‏‏وقل مثل ذلك في الزكاة، فكل مسلم فرضها عليها، ويقرأ أدلتها في الكتاب وما استطاع من قراءته
من السنة، ولكن تفاصيل الأدلة لا يقرأها كل أحد.

وفي نوازل الزكاة:
تجد مسائل من نحو: (زكاة الراتب الشهري، وزكاة السندات، وزكاة الصناديق الاستثمارية، وزكاة الحقوق المعنوية) وهكذا، ف‏هل تريد أن يفتي فيها من لم يعرف طرق الاستدلال؟
‏‏وهكذا في سائر ما يحتاجه الناس من شأن دينهم، هل يكفي أن يقول القائل:
‏إن الدين يسر -وعلى ذلك- لا أحتاج لطلب العلم حتى أعرف تفاصيل الأحكام؟
ثم ليس يشك من قرأ سيرة النبي ﷺ وصحابته؛ أن المسلمين في عصره كانوا يرجعون له ولكبار صحابته يسألون ويستفهمون، ثم جرى ذلك من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، لازالوا يرجعون -فيما يشكل إليهم من مسائل دينهم- إلى أهل العلم والفقه في الدين.

• ف‏إذا علمنا هذا فلماذا نسمع مضيغ الماضغين ممن يدعون إلى فتح باب الكلام في دين الله بغير علم لكل أحد؟
‏ماذا يريدون؟
‏وما هو مشروعهم؟
‏وغايتهم؟
هل تصوروا لازم قولهم؟

• وفي مقابل ذلك فمن المسلمات الشرعية في فقه الفتيا أن ‏لا تجوز لعالم شرعي فتيا ولا ينفذ له رأي في كل فرع من فروع حياة الناس ومعاشهم إلا برجوع لأهل الاختصاص؟
فلا يجوز له أن يفتي في مسألة طبية حتى يعرف حدود فهمها من طبيب مختص، ولا في مسألة اقتصاد والمعاملات المصرفية والتجارية حتى يرجع لمختص، ولا في مسائل العسكرة حتى يرجع لصاحب اختصاص يصور له المسائل ويصفها له بلسان أصحاب الفن، وهكذا في كل علم حتى يستخبر أهله.
وكثير من الأبحاث الفقهية المُحَكمة والفتاوى المجمعية المتعلقة بنوازل معاصرة في مثل علوم الطب والاقتصاد -مثلا- يشارك فيها مختصون من ذلك الفرع العلمي، ويُتلقى عنهم في فنهم ويرجع في توصيفه لكلمتهم.

وتجد من ينازعك في فكرة التخصص؛ ربما لم يطلع كم يبذل عالم الشريعة من وقت وجهد في سؤال أهل التخصص الطبي حين يريد كتابة بحث في مسألة طبية -مثلا-.

وإني لأعرف من علماء الشريعة من إذا أراد كتابة بحث فقهي له علقة بمسألة طبية؛ قام وقعد وساءل واستفتى علماء الطب وحضر ندواتهم ومؤتمراتهم، بل أعرف من كان يدخل غرف العمليات ليتم تصوره للمسائل التي يريد الكتابة الشرعية فيها.
ف‏أي احترام للتخصص أعظم من القول: (بحرمة الفتيا) في مسألة علمية قبل أخذ رأي أهل الاختصاص لبيان وجهها الواقعي، لتعطى حكمها الشرعي بعد ذلك.‏
وهذا الأمر قبل أن يكون احتراما للتخصص؛ فهو خضوع لأمر الله وتعظيم لحدوده، فلا يُحَرّم على الناس ولا يُحَل إلا بعد الاجتهاد في تصور الواقعة.

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق