الأحد، 5 فبراير 2017

أوراق فقهية - ١١ - (من مواعظ الفقه).

                بسم الله الرحمن الرحيم
                  ( من مواعظ الفقه )
     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
     ففي ثنيّات كتب الفقه والفروع ستجد إشراقات من الرقائق والمواعظ تخشع لها القلوب، وتدمع لها العيون، خارجة عن منوال الأحكام العملية والتفاصيل الفقهية المجردة.
     على أن صاحب العلم والدراسة والبحث -وإن لم يباشر تلك المواعظ- سيجد في نظره ودراسته لأحوال النبي ﷺ وأفعاله وأحكام دينه؛ موعظة وأي موعظة، فلقد يبلغ القلب الطاهر أن تُخْشعه المسألة الفقهية العارضة والفائدة العلمية الشاردة؛ التي ربما لا يخشع لها كثير غيره ولا يجدون لها في نفوسهم موعظة، ولكنّ لبعض القلوب من الصفاء والشفوف ما يبصر به من نور الوحي ما لا يبصره غيره.

     وتجد كثيرًا من ذلك منثورًا في طيّ بعض كتب الفقه في أبواب متفرقة، كما تجده في أبواب صلاة الكسوف، وصلاة الجنائز، وفي كتاب الإجارة (في مسائل الأجرة على القربات) ونحو ذلك.

•• واقتران الوعظ بالأحكام العملية سبيل قرآني، يظهر لك بأدنى تأمل في سياقات آيات الأحكام، كما تراه في ختام آية تحويل القبلة من سورة البقرة، فقال ﷻ: "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم"، وكما في توسط قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب" آيات الصيام ، وكختام آية إتمام الحج والعمرة، وهي الآية التي ذكر فيها أحكام دماء الجبران والشكران للمتنسكين فختمت بقوله تعالى: "واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب: "ولطالما والله تعجبت من هذه الخاتمة المجللة برهبة الوعيد والتحذير وسأذكره بعدُ، ولكن الذي تعكف عنده القلوب حقا؛ هو ذلك الانتقال الشجي بعد سياقات آيات الطلاق والعدد ومتعة المطلقة والخطبة وأحكام الاسترضاع؛ حتى إذا طال السياق في تقرير الأحكام العملية أتى التذكير بالصلاة والذكر فقال سبحانه: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ثم عاد السياق إلى ذكر بعض تفاصيل الأحكام الفرعية .
فهذا مثال قليل من سورة واحدة يطلعك على ما وراءه من الوعظ الفقهي القرآني، وهو أمر أخذ من اهتمام أهل العلم مأخذا كريما، وكتبت فيه كتابات حسنة شريفة.
     وللقرآن طرائق جليلة في الوعظ المقترن بالأحكام الفقهية، فمنها:
• اقتران الحكم الفقهي بذكر المآب والمرجع لله، والتذكير بالآخرة، كما جاء في قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}، فذكّر بالحشر والمآب لله في ختام آيات الحج من سورة البقرة، فنفَذ القرآن من الحشر الأصغر في الحج إلى التذكير بالحشر الأكبر يوم القيامة.
     ومثله قول ﷲ ﷻ: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا ﷲ واعلموا أنكم ملاقوه وبشّر المؤمنين}، وهذا تعقيب عجيب لمثل هذا الحكم، فإنه عقبه بأربع مواعظ، جعلت بعض أئمة التفسير يتعجب من سياقه حتى ردّ ما جاء فيها من موعظة الأمر بالتقديم للنفس لما قبلها من الأمر بالوصية.

• ومن طرائق القرآن الوعظية عند ذكر الأحكام الفقهية الانتقال من ذكر المحسوس المشهود للمعنى القلبي الوعظي، كما في قوله ﷻ: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فأمر ﷻ بالتزود في الحج بالزاد والمطعوم، كما روى البخاري عن ابن عباس رضي عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فنزلت: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فانتقل من المحسوس المشاهد الدنيوي إلى الموعظة بشأن الآخرة.
     ومثله قوله ﷻ: {قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير}.
فانتقل السياق القرآني من ذكر المنة باللباس في الستارة والتجمل إلى ذكر زينة الإيمان ولباس التقوى، وهو موضع موعظة للمؤمن، ينفذ من تأمله اللباس المحسوس المشاهد إلى العبرة في لباس التقوى.

• ومن طرائق القرآن الوعظية عند ذكر الأحكام الفقهية، تعقيبه للحكم الفقهي بالوصية بتقوى ﷲ كما في ختاه الآية من قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} حتى ختمها بقوله ﷻ: {واتقوا ﷲ لعلكم تفلحون}.
     وكما في قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله}.
     وكما في ختام آية إتمام الحج والعمرة، قال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} حتى ختمها بقوله: {واتقوا ﷲ واعلموا أن ﷲ شديد العقاب}، وهذا ختام جليل لهذه الآية التي ذكر فيها دماء الشكران والجبران، والتي يبحث الفقهاء فيها أحكام فدية الأذى، وأحكام البدل بالصيام، والتفريق بين حاضري المسجد الحرام والآفاقي ونحوها من الأحكام، فختمت بهذا الختام الخاشع.
     ومن اللطيف اقتران الأمر بالتقوى بأحكام الجوارح في الصيد كما في قوله ﷻ: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم ﷲ عليه واتقوا الله}.

• ومن الطريقة القرآنية في التقرير الفقهي بث التعابير الاعتراضية الوعظية في طيّ سياق الحكم الفقهي.
     ومن ذلك ما جاء عند ذكر حكم التزوج بالإماء عند العجز عن نكاح الحرة، قال ﷻ: (وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن فَتَیَـٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ).
ففي قوله: (وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ) معاني:
- تأنيس المؤمن بنكاح الأمة التي لعله أن يجد في نفسه استنكافا من نكاحها، فذكر وصف الإيمان تسكينا لنفرة قلبه، وطردا لجاهلية النفوس.
- ولما ذكر وصف الإيمان وما يحمل من وصف مادح نبّه على أن العالم ببواطن القلوب وحقيقة صدق الإيمان هو ﷲ ﷻ، ليدفع عن النفس صولة الركون إلى الوصف الظاهري، وليأخذ في العناية بتحقيق شرف الإيمان حقا.


محمد آل رميح .
٩ / ٥ / ١٤٣٨ هـ

هناك تعليق واحد:

  1. جزاكم الله خيرا ، اللهم ارزقنا فقها بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم

    ردحذف