الحمد لله، أما بعد:
ألست تعجب من ذلك الاستهلال لسورة الماعون؟ (أرأيت الذي يكذب بالدين)؟ أرأيت يا محمد، ذاك المكذب بالدين والحساب والعقاب؟
ربما لو قرأ السورة من لم يكن حافظا لها، واستمع صدر السورة لأول مرة، لتخايل على البداهة أن قوله ﷻ: (أرأيت الذي يكذب بالدين) سيعقب بحديث قاصف عن طغاة قريش، وأكابر مجرمي مكة، وربما ظن على الارتجال أن ذلك المكذب بالدين الذي ستتحدث عنه هذه السورة هو فرعون أو هامان أو طاغية من جنسهم، لكن الأمر لم يكن كذلك! وكل ذلك لم يكن!
لقد جاءت الآية الثانية: (فذلك الذي يدعّ اليتيم)! يدعّ اليتيم! والدع هو الدفع بزجر من الخلف! فهو يدفعه عن حقه، ويقهره! لقد كانت أول صفة وصف بها هذا المكذب للدين هو قسوته على الضعفاء والأيتام!
ثم قال سبحانه: (ولا يحضّ على طعام المسكين)! فذمته الآية لقصوره عن الفاعلية الإيجابية في مجتمعه! فهو لا يدعو ولا يدعم ولا يحث ولا يحض على إطعام المساكين! فذمه ﷲ لعدم قيامه برتبة التأثير البناء، وذلك ذم لتارك إطعام المسكين بطريق الأولى! فما أجل هذا المعنى
أرأيت يا محمد الذي يكذّب بالدين! إن من صفاته تلك القسوة على الضعفاء، والجفوة عن مسح آلامهم، وتخفيف أحزانهم! فهو لا يحنو على اليتيم ولا يمسح دمعته، ولا يربت على كتف المستضام، ولا يدري عن آلام الناس وأحزانهم ومصابهم!
ونحن نعلم أن التفريط في حق اليتيم وعدم الحث والحض على إطعام المساكين ليس مكفرا مخرجا من الملة، ولكنه كمال هذه الشريعة التي أتت بحفظ حق ﷲ وحق البشر! فالكمال الإيماني يكون بالقيام بالحقين!
ثم رجع السياق القرآني: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون)، لقد رجع السياق يتحدث عن التفريط في حق ﷲ! فإذا الذكر الحكيم في السورة يتناوب بين هذين الحقين!
إياك أن تظن أن الدين صلاة في المسجد فقط، أو تلبية في المشاعر فحسب! كلا، فالأمر ليس كذلك!
(عن صلاتهم ساهون): فهو لاهٍ عن صلاته، منشغل عنها، فيؤخرها عن وقتها، ويتشاغل عنها، ويصليها بتثاقل،فالصلاة ليست قضية مركزية في حياته!
ثم عادت السورة في ختامها تتحدث عن حق الخلق مرة أخرى: (ويمنعون الماعون) فليس من أهل الإعانة للخلق، بل يمنع ما فيه معونة للناس! ليس إيجابيا متعاونا، بل تراه منجمعا على نفع نفسه، لا يعطي الناس ما يطلبونه مما لا يضره، ولا يشاركهم ما يحتاجونه، ولا يحسن بجاهه، ولا يعير عارية، ولا يعطي ولا يبذل، فيمنع ما يتعاونه الناس بينهم!
ﺇﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺴﻮﺭﺓ (قليلة الآيات) تبين أن المؤمن الصادق لابد أن يندفع إلى البر بالخَلق، وتؤكد أن القيام بحق الخالق يدعو للقيام بحق الخلق!
إنها تبين حقيقة هذا الدين، الذي تتكامل فيه العبادة المحضة بالعبادات الاجتماعية.
- تأمل هذا العطف بين أفعال المعرضين، (عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)، فمن أضاع الصلاة أضاع حقوق الخلق، من أضاع حي على الصلاة، أضاع كل حق وفضيلة.
- (فويل للمصلين)! إنها صلاة أهل التقصير، والسهو، صلاة من لا يقيمها فلا تزكو نفسه، ولا ترقى لنفع الناس والإحسان إليهم.
من صلى صلاة لا روح فيها كانت حياته ﺣﻴﺎﺓ لا روح فيها، وأصبحت حياة لا تقوم على شعور التكافل والكرم والفزعة وطهارة السلوك.
وهكذا كانت سورة الماعون، تتحدث عن القيام بالحقّين، حقّ الخالق وحقّ الخلق، بمثل هذا التناوب العذب، والحديث الآسر.
جزاكم الله خيرا ونفع بكم
ردحذف