بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:أما بعد:
• فإنه لمّا استقر المنع من التصويت في مجالس الأمة والبرلمانات، وتحت القباب النيابية المشرعة بغير ما أنزل الله؛ توهم بعض أهل الفضل والعلم انسحاب الحكم إلى كل تصويت على أمر محرم ولو اقترن بلواحق وأوصاف ليست من جنس التشريع والحكم بغير ما أنزل الله.
• وهذا التوهم يلحق كثيرا من المسائل التي تدل الأدلة فيها على حكم من الأحكام في حال غالب؛ ثم قد تأتي من الحادثات ما تماثل تلك المسائل في الصورة وتختلف في العلة والوصف، فلربما أُلحقها بعضهم بتلك المسألة فأعطاها حكمها توهما وظنا:
- لسلطان الحال الغالب على النفوس.
- أو لاتباع ظواهر الألفاظ دون التفات للعلل الفارقة.
- أو لتوهم وجود العلة فيها مع الغفلة عن الفرق بين النظائر، وعدم التحقق من مناطات الأحكام الذي علقت عليه المسألة.
• وهذا الشأن له أمثلة كثيرة، لا تخطئ أن تراها في كتب الفقهاء :
- فمن تلك المسائل؛ ما نصّ عليه جمع من الفقهاء من مشروعية القصر في عرفة ومنى لأهل مكة في كل زمان، فإنهم لما رأوا أن النبي ﷺ في حجته قصر وقصر الناس معه دون تفريق بين مكي وغيره، ظن أن أهل مكة في كل عصر يلحقون بحكم أهل مكة في العهد النبوي دون تنبه لمناط القصر آنذاك، هذا مع أن بعض من يقول ذلك هو ممن يقول بأن القصر للسفر لا للنسك، ثم حين أراد تحقيق الحكم في الحادثة أثّر عليه سلطان ما ظنه من صراحة النص دون تنبه للفرق بين المناطين.
- ومن أمثلة ذلك ما يُتوهم من قول النبي ﷺ: "لا تبع ما ليس عندك "، فظن بعضهم أن المنع معلق بكل وجه يترتب عليه بيع ما ليس موجودا حال المفاوضة من الأعيان، دون أن يفرق بين العقود على الأعيان الموصوفة في الذمة وعقود السلم والآمر بالشراء، وما يدخل تحت الضمان وما يخرج عن ذلك، والفرق بين العقد والوعد بالعقد وهكذا، وهذا مثال للانطلاق في تنزيل النص مع الغفلة عن مناطه.
- وقل مثلك ذلك في مسألة التصوير، فإنه قد غلب اعتبار اللفظ على اعتبار المعنى المقصود من النص، فذهب بعض الفقهاء في أواخر القرن الماضي إلى حرمة الفوتوغرافيات لتوهم مماثلة بين النوعين، وتتابع عليه جمع من العلماء دون تنبه للفرق بين الحالين، حتى إنه حينما نصب الفرق بين الحالين، وذكر المجوزون ما يختلف فيه الأمران -وأن التصوير المذكور في النص هو ما كان عن عمل وتخليق وهو ما ليس في هذه المسألة- ردّ المانعون بأن التصوير الفوتوغرافي فيه عمل أيضا وحركة لليد فيه بضغط زر التصوير!
وهذه غفلة أخرى عن حقيقة الإيراد.
• والمقصود أنه قد يغلب على النفس معنى معين مرتبط بمسألة في حال؛ فإذا ما جاءت مسألة تماثلها في الصورة بدر إلى العقل إلحاق هذه بتلك دون تحقيق للفرق.
• وهذا مما تراه بيّنا في مسألتنا هنا، فإن إلحاق التصويت على أي حال بالتصويت التشريعي البرلماني جنَف ظاهر، فإن التصويت هناك له مقتضى في التشريع والتبديل لا يلزم وجوده في كل حال على هذا النحو.
• فالتصويت -مثلا- في وسائل التواصل الاجتماعي على أمر معين، يغلب عليه المصاولة الإعلامية لإظهار ما تعتقده جماعة معينة أو بلد معين.
ولما كان من مقاصد الشرع إظهار شعار الإسلام وصولة التدين كانت المشاركة في مثل هذه التصويتات لا تعدو الأثر الإعلامي، وليست من الرضا بالمعصية في شيء، ولا هي من عرض الشرع على آراء الناس، وإلا فهل يقول قائل : إنك لو سألت قوما في موضع محصور عن دينهم ومعتقداتهم، ثم أخذت إحصائيات بذلك فهل يمكن أن يقول قائل إن هذا من (إخضاع شرع الله للآراء)!
• وأما التفريق بين إنشاء التصويت والمشاركة فيه فهو تفريق صحيح، مبني على علة الحكم الذي بني عليه أصل الكلام، فإنما منع من إنشاء التصويت لأن من أنشأه جعل آراء الخلق في مقابل شرع الله، وهذا ليس موجودا في من شارك بإظهار صولة أهل الحق، فإنه لم يجعل لآراء الناس سبيلا على الشرع بل باينها وضادها.
وأيضا فإنه يمنع من إنشاء التصويت لما يفتح به لأهل النفاق والفجور من إظهار رأيهم، وهذا ليس موجودا في المشاركة.
ولأنه لا يؤمن أن يظهر لهم غلبة تفتن الناس، وهذا عكس ما في المشاركة.
• ولا يلزم من القول بجوازه= القول بجواز المشاركة في البرلمانيات المشرعة بغير ما أنزل الله، فإن ذلك يترتب عليه من التشريعات والعمل ما لا يوجد هنا.
• وأما الإنكار على من جوّز المشاركة في هذه التصويتات مع منعه من ابتدائها، ومماثلة قوله بمن يقول: سأشرب الخمر مع اعتقاد حرمته ، فإنكار في غير مورده، وتشبيه في غير محله .
فإن المسألة الواحدة قد يختلف متعلقها من الحل والحرمة باختلاف طرفيها، ولهذا نظائر في الشرع:
- فإن بيع الكلب حرام بدلالة النص، ومع هذا جوز جمع من أهل العلم شراء كلب الصيد لمن لم يجده إلا بالثمن، وهو قول قوي، فهو حرام على الآخذ مباح للباذل.
- بل ربما كان واجبا على الباذل كمثل فداء الأسرى، فإنه يجب على المسلمين بذل ذلك مع حرمة ذلك على آخذه من الكفار وتأثيمه، فاختلف الحكم هنا لاختلاف متعلقه .
- ومثل ذلك كسب الحجام، فإنه خبيث بالنص النبوي، وسواء قلنا إن الخبيث دال على التحريم أو على ما دونه، فإن النبي ﷺ قد بذل للحجام أجرته، ولا يجوز أن يظن أن الخبث متعلق بالإعطاء، فاختلف الحكم لاختلاف المتعلق، فإنه ﷺ لم يقل (إعطاؤه خبيث).
• ولهذا فلا يمنع أن يقال: بحرمة ابتداء التصويت ويقرر ذلك وينصر ثم إذا أراد مفسد أن يوهن من ديانة المجتمع ويضعف إرادته شددنا عليه بالنكير على التصويت وصوتنا ضده ليظهر مبلسا من الحق ومن الأعوان.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق