الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

نزول المصائب بالصالحين ومن دونهم.. الأسباب والآثار.

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
     أما بعد:
   فعند نزول المصائب والبأساء والبلايا الخاصة والعامة -كالغرق والحرَق والزلازل- يختلف ميزان نظر الناس لها بحسب الاهتداء بنور الوحي ‏والرجوع للأدلة، ويدور على ألسنة الناس أسئلة عن أسبابها ونتائجها، فيكثر السؤال عن سبب المصيبة:
    هل للمعاصي أثر في ذلك؟
    هل يبتلى بالمصائب عقوبة؟ أم ربما كانت لتكفير السيئات ورفعة الدرجات؟
   وإذا كانت المعاصي سببًا للمصائب فلماذا نرى بعض الكفار في بلنهية من العيش وخفض وسعة؟
     وهنا ذكر لأصول شرعية يجب رعيها وتفهمها عند الحديث عن أسباب المصائب والبلايا وآثارها:

     • الأصل الأول: أنه ما من مصيبة تنزل بالعباد إلا بذنوبهم، كما قال ﷻ: (وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲ).
     وكما قال ﷻ: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس: "السيئة ما أصاب يوم أحد".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير هذه الآية: "ﻭﻣﺎ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﺮ ﻓﺒﺬﻧﻮﺑﻪ ﻭﻣﻌﺎﺻﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {ﻭﻣﺎ ﺃصابكم ﻣﻦ ﻣﺼﻴﺒﺔ ﻓﺒﻤﺎ ﻛﺴﺒﺖ ﺃﻳﺪﻳﻜﻢ} (مجموع الفتاوى ٨/ ٦٨)
     وقال: (ﻭﻗﻮﻟﻪ {ﻭﻣﺎ ﺃﺻﺎﺑﻚ} ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻛﺎﻑ اﻟﺨﻄﺎﺏ ﻟﻪ ﷺ - كما ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻭﻏﻴﺮﻩ - ﻭﻫﻮ اﻷﻇﻬﺮ، ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ، {ﻭﺃﺭﺳﻠﻨﺎﻙ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺭﺳﻮﻻ}، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻜﻞ ﻭاﺣﺪ ﻣﻦ اﻵﺩﻣﻴﻴﻦ، ﻛﻘﻮﻟﻪ {ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﺎ ﻏﺮﻙ ﺑﺮﺑﻚ اﻟﻜﺮﻳﻢ}، ﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﺿﻌﻴﻒ، ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻘﺪﻡ ﻫﻨﺎ ﺫﻛﺮ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻻ ﻣﻜﺎﻧﻪ. ﻭﺇنما ﺗﻘﺪﻡ ﺫﻛﺮ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻗﺎﻟﻮا ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻮﻩ، ﻓﻠﻮ ﺃﺭﻳﺪ ﺫﻛﺮﻫﻢ: ﻟﻘﻴﻞ ﻣﺎ ﺃﺻﺎﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﺣﺴﻨﺔ ﻓﻤﻦ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﺎ ﺃﺻﺎﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﺳﻴﺌﺔ، ﻟﻜﻦ ﺧﻮﻃﺐ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺑﻬﺬا، ﻷﻧﻪ ﺳﻴﺪ ﻭﻟﺪ ﺁﺩﻡ، ﻭﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻫﺬا ﺣﻜﻤﻪ: ﻛﺎﻥ ﻫﺬا ﺣﻜﻢ ﻏﻴﺮﻩ ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻷﻭﻟﻰ ﻭاﻷﺣﺮﻯ).
     وقد تعجب الصحابة من وقوع مصيبة الهزيمة والقتل في أحد، فأنزل ﷲ: "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم".
‏     وعتب ﷲ على الصحابة بعد هزيمة أحد فقال: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا".

     فإن قال قائل: أليس قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "يبتلى المرء على حسب دينه"؟
قيل: نعم، قد صح ذلك عنه عند أهل السنن من حديث سعد بن أبي وقاص، ولو أكمل الحديث لبان لك صدره وانكشف لك فجره!
     فقد ثبت عن سعد أنه قال: ﻗﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺃﻱ اﻟﻨﺎﺱ ﺃﺷﺪ ﺑﻼء؟ ﻗﺎﻝ: "اﻷﻧﺒﻴﺎء ﺛﻢ اﻷﻣﺜﻞ فاﻷﻣﺜﻞ، ﻓﻴﺒﺘﻠﻰ اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺩﻳﻨﻪ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﺩﻳﻨﻪ ﺻﻠﺒﺎ اﺷﺘﺪ ﺑﻼﺅﻩ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺩﻳﻨﻪ ﺭﻗﺔ اﺑﺘﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺩﻳﻨﻪ، ﻓﻤﺎ ﻳﺒﺮﺡ اﻟﺒﻼء ﺑﺎﻟﻌﺒﺪ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺮﻛﻪ ﻳﻤﺸﻲ ﻋﻠﻰ اﻷﺭﺽ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻄﻴﺌﺔ".
     فتأمل كيف ذكر أن عاقبة ذلك أنه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة.
    ولهذا حين بوّب البخاري في صحيحه (ﺑﺎﺏ: ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻼء اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﺛﻢ اﻷﻣﺜﻞ فاﻷﻣﺜﻞ) أورد تحته حديث ابن مسعود ﻗﺎﻝ: ﺩﺧﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭﻫﻮ ﻳﻮﻋﻚ، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻧﻚ ﻟﺘﻮﻋﻚ ﻭﻋﻜﺎ ﺷﺪﻳﺪا؟
ﻗﺎﻝ: «ﺃﺟﻞ، ﺇﻧﻲ ﺃﻭﻋﻚ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻋﻚ ﺭﺟﻼﻥ ﻣﻨﻜﻢ»
ﻗﻠﺖ: ﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﻟﻚ ﺃﺟﺮﻳﻦ؟
ﻗﺎﻝ: «ﺃﺟﻞ ﺫﻟﻚ ﻛﺬﻟﻚ، ﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﺴﻠﻢ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﺃﺫﻯ، ﺷﻮﻛﺔ ﻓﻤﺎ ﻓﻮﻗﻬﺎ، ﺇﻻ ﻛﻔﺮ اﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ ﺳﻴﺌﺎﺗﻪ، ﻛﻤﺎ ﺗﺤﻂ اﻟﺸﺠﺮﺓ ﻭﺭﻗﻬﺎ».
      فتأمل آخرة الحديث، مع أنه قد ذكر فيه رفع الدرجات ثم بيّن النبي ﷺ أن ذلك مع تكفير السيئات.
     ويعضده ما ثبت في الترمذي ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: "ﻣﺎ ﻳﺰاﻝ اﻟﺒﻼء ﺑﺎﻟﻤﺆﻣﻦ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﺔ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻭﻟﺪﻩ ﻭﻣﺎﻟﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻠﻘﻰ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻄﻴﺌﺔ".
وقال الترمذي: ﻫﺬا ﺣﺪﻳﺚ ﺣﺴﻦ ﺻﺤﻴﺢ.
     فتشديد البلاء على الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ليس لكثرة ذنوبهم، ولكن ليعظم تكفير الذنوب، فيكثر بلاؤهم ليكثر تكفير ذنوبهم، وإلا فذنوبهم أقلّ من ذنوب غيرهم، ثم لا تستوحش من هذا، فتقول: وهل للأنبياء ذنوب؟! فإن الأدلة دالة على تجويز الصغائر على الأنبياء دون أن يقرّوا عليها، وعلى هذا عامة السلف، والقول بعصمتهم من الصغائر قول حادث، قال ﷻ: (وعصى آدم ربه فغوى)، وقال: (فاعلم أنه لا إله إلا ﷲ واستغفر لذنبك).

     • الأصل الثاني: إذا تقرر أن كل بلاء وعقوبة فبذنب؛ فليس يلزم أن يعاقب العبد بكل ذنب، بل إن كثيرًا من الذنوب لا يؤاخذ ﷲ بها العباد، كما قال سبحانه: "وما أصابكم ‏من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير".
وهذه الآية اجتمع فيها أصلان:
- أن المصائب من الذنوب.
- ولكن لا يلزم العقوبة على كل ذنب.

     وإنك واجد عند وقوع المصيبة تسلطًا وسخرية من تسبيب العقوبات بالذنوب؛ وربما يقول قائلهم: انظر إلى الكفار يأتون أعظم الذنوب ولم ينزل بهم ما نزل ببعض المسلمين!، وإن نزل بالكفار مصيبة قال: لا تقل إن ذلك بذنبهم، فقد نزل بالمسلمين مثلما نزل بهم.

     وهذه غفلة عظيمة عن أصل في ‏الباب، فإن الأدلة جاءت بأن البلاء قد ينزل ببعض المؤمنين تكفيرًا لذنبه، وقد يترك بعض الكفار استدراجًا له، قال ﷺ: "لا يصيب المؤمن من مصيبة ‏حتى الشوكة إلا قص الله بها من خطاياه أو كفر بها من خطاياه" رواه مسلم.
     بل إنه يشدّد على المؤمنين كما سبق، كما قال ﷺ: "إن الصالحين يشدد عليهم، وأنه ‏لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت به عنه خطيئة، ورفع له بها درجة" رواه أحمد.
وفيه قال ﷺ: "إﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻼء اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﺛﻢ ‏ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ".
     وأما الكافر فقد يستدرجه ﷲ كما قال ﷻ: "والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم".

     • الأصل الثالث: أنّ من أصيب بمصيبة وبلاء من أهل الإيمان فلا يجوز تعييره والسخرية بمصابه.
وإن من شؤم السخرية بمن نزل به البلاء من المؤمنين أن تجد من احتملته غضبته حتى أنكر أثر الذنب في المصيبة، انتصارًا للذي عيّر أهل البلاء حين نزلت بهم مصيبة.

     • ومن الأصول المهمة: أن يُعلم أن نزول البلاء قد يكون خيرًا للعبد، فإنه قد يكون سببًا في رجوعه إلى ﷲ، كما قال ﷻ: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب  الأكبر ‏لعلهم يرجعون".
     وكثير من الناس ينسى النعم وتعظُم لديه المصيبة، قال ﷲ: "إن الإنسان لربه لكنود" قال الحسن: "يعد المصائب وينسى النعم".

     • ومن الأصول في هذا الباب: أن البلاء قد ينزل فيعم الصالح والفاسد، ففي الصحيحين قال ﷺ: "ﺇﺫا ﺃﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﺑﻘﻮﻡ ﻋﺬاﺑﺎ ﺃﺻﺎﺏ اﻟﻌﺬاﺏ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻬﻢ، ﺛﻢ ﺑﻌﺜﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ".

     • من الأصول العظيمة أيضا: أن النعمة قد تكون بلاء، يبتلي ﷲ العبد بالنعم فيقسو قلبه ويغفل عن ذنبه ولو عوقب لربما رجع، فيمكر به ويزداد في الغيّ.

     • أخيرا: فليس الحديث عن أثر الذنب تزكية للنفس بل كلنا أهل ذنب وتقصير، وما أصبنا من مصائب فبذنوبنا وسيئاتنا، وﷲ يتجاوز ويغفر ولا يؤاخذنا.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.

هناك تعليقان (2):